س: لماذا تصر على أن الترجمة هي سبيل النهضة، بينما شعوبنا لا تقرأ أصلا؟.. أليس الأجدى أن نتعلم لغة أعدائنا لنأمن مكرهم ونستوعب علومهم ونجاريهم في تقدمهم؟.. ولمن تترجم، إذا كان المختصون لا يقرأون بالعربية، وغير المختصين لا يقرأون في العلم؟
ج: أولا يجب أن نتفق على أن تعلم العلوم بالإنجليزية مطبق في مصر منذ إنشاء جامعة القاهرة في مطلع القرن العشرين، لكنها لم تجعلنا أفضل!
والمنطق يقول إن ما نجربه لقرن من الزمان ويثبت فشله، علينا تغييره.
وقد قلت كثيرا إن مشروع الترجمة سيجعل الخريجين أفضل في الإنجليزية، لأن الترجمة هي زبدة اللغة، والحافز للرجوع إلى القواميس والمختصين.. فمشروع الترجمة ليس إلغاء لتعلم اللغة الأجنبية، بل على العكس، سيجعل دراستها أكثر إفادة ودارسها أكثر إجادة!
نأتي إلى السؤال الأهم: لمن نترجم:
إن كل طالب سيترجم مرجعا واحدا فقط، لكنه يستطيع أن يقرأ آلاف المراجع الأخرى التي ترجمها زملاؤه.. علما بأن القراءة باللغة الأم تكون أسهل وأسرع وأكثر استيعابا من القراءة بلغة أجنبية، بسبب فارق الممارسة.
إذن، فحتى المتخصصون سيقرأ بعضهم ترجمات بعض، سواء كثقافة واطلاع، أو كجزء من بحث عن إجابة متخصصة!
إضافة إلى هذا، فإن الهدف الحقيقي من مشروع الترجمة هو نشر العلم بين غير المتخصصين.. أنا مثلا لم أقرأ في علوم الفضاء الكيمياء والوراثة إلا ما وجدته مترجما.. ولا أقرأ بالإنجليزية إلا في التخصص الذي أفهمه وهو البرمجة، وأي تخصص آخر أجد صعوبة في القراءة فيه بالإنجليزية، بسبب عدم الإلمام بمصطلحاته!
وحينما أبحث على الإنترنت عن أي معلومة، أبحث بالعربية أولا، فإن لم أجد طلبي، بحثت بالإنجليزية.. فلماذا لا نثرى المحتوى العلمي العربي على الإنترنت بهذه الترجمات، بدلا من تضييع وقتنا في البحث والقراءة بلغة نستصعبها؟
هذا رغم أني مهندس متخصص، فما بالكم بالعامل الفني، الذي من المفروض أن يتابع هو أيضا الجديد في العلم، لأن الآلات التي يتعامل معها تتطور كل يوم؟.. هل تظنونه قادرا على القراءة بالإنجليزية؟
وماذا عن فتى موهوب عبقري عمره 12 عاما يريد القراءة في أحدث ما وصلت إليه الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب؟
هذه النقطة غائية تماما عن أذهاننا، وهي أن العبقرية تولد في الطفولة لا في الجامعة، ولا يمكن أن نلحق بالغرب ما دام أطفالنا يقرأون عن القطط والفئران، بينما أطفالهم يكتبون برامج الحاسب ويقرأون الموسوعات العلمية بدون وجود حواجز لغوية!
وكما قال الزيات: نحن لا نستطيع جلب الناس جميعا إلى العلم من خلال المدارس، ولكننا نستطيع جلب العلم إلى الناس جميعا من خلال الترجمة!
للأسف مضى أكثر من نصف قرن ولم يفقه أحد قوله هذا حتى الآن، وسبقتنا أمم كنا نسخر منها من عبدة البقر والحجر والشجر، وما زلنا نتراجع إلى الخلف!
فنحن ننفق المليارات سنويا في مصر لتعليم 16 مليون إنسان لغة أعدائنا بدون نتيجة، لأن ساعة من دراسة الإنجليزية يوميا ليست تدريبا كافيا، كما أنها تتم بطريقة ورقية وليس بالممارسة الحية للغة.. بينما لو أنفقنا جزءا يسيرا من هذه النقود على تدريب 1000 مترجم فقط متخصص في ترجمة العلوم، فسنتيح لملايين الناس الآن وغدا قراءة آلاف المراجع العلمية في جميع التخصصات بلغتهم التي يمارسونها، وسيستطيعون قراءتها دون الذهاب إلى مدارس أو الحاجة إلى قواميس، أو الوصول إلى سن معينة أولا، أو الحصول على درجات تدخلهم كليات معينة!
فكروا معي بطريقة علمية عملية: هل الأسهل تعليم كل إنسان يولد في كل جيل لغة عدوه ليصل إلى العلم، أم الأسهل والأرخص ترجمة الكتاب مرة واحدة، وتركه ثروة متراكمة للجيل الحالي والأجيال التالية؟
هل الأسهل بناء مصنع على قمة جبل، وإجبار العمال على الصعود إليه جيلا بعد جيل؟.. أم أن الأسهل والأذكى والأرخص والأكثر كفاءة أن نبني المصنع في الوادي؟
هل أدركتم الآن مدى الإهدار في الوقت والجهد والمال الذي نفعله منذ عقود؟
هذا هو السبب الجوهري الذي يجعل الأمم التي تقرأ العلم بلغتها تتقدم بسرعة البرق وبأقصر السبل، بينما الأمم التي تنفق وقتها ومالها وجهدها أولا لتعلم لغة أخرى لتصل بها إلى العلم لا تنتج شيئا!
لهذا أمامنا حلان فقط: إما أن ننسى اللغة العربية ونتكلم الإنجليزية منذ مولدنا كلغة يومية، وإما أن نعرب العلم.. غير هذا عبث!
إن العلم عندنا أعرج، لأنه محبوس في أدراج الأكاديميين.. وفي مصر 90 ألفا من حاملي درجة الدكتوراه، منهم على الأقل 10 آلاف في تخصصات علمية، ورسائل الماجستير والدكتوراه الخاصة بهم بالإنجليزية، لم يستفد منها أي إنسان في الشرق أو الغرب، لأن أهل الشرق لا يقرأون الإنجليزية، وأهل الغرب عندهم ما يغنيهم عن قراءة أعمال هؤلاء المغمورين الذين لا ينشرون في أية دوريات عالمية!
فهل أنتم سعداء وراضون عن هذا العبث؟
هل اقتطعنا هذه الثروات من لحم الفقراء والمرضى واليتامى والأرامل لتنساها عقول مُتربة، وتأكلها العثة في الأدراج؟
أليس الاذكى أن تترجم كل هذه التركة من الأبحاث إلى العربية ليستفيد منها كل من أراد في أي سن وأي تخصص وأي بلد، وأي عصر؟
باختصار: الترجمة هي كسر لاحتكار العلم.. وهذه هي أول خطوة في أي نهضة علمية، لأن نسبة كبيرة من براءات الاختراعات في العالم يحصل عليها هواة وفنيون لا الأكاديميون المشغولين في بحوث نظرية ومعادلات مجردة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق